بحث فلسفي معنى الحمد و أنه لله سبحانه
و أما من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى و جسدا من غير روح؛ أو يتبعض فيشتغل بربه و بغيره، إما ظاهرا و باطنا كالوثنيين في عبادتهم لله و لأصنامهم معا أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات و الأغراض؛ كان يعبد الله و همه في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ»،: الزمر- 2 و قال تعالى: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»: الزمر- 3.
فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد و هو الحضور الذي ذكرناه، و قد ظهر أنه إنما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته و لم يتعلق. قلبه في عبادته رجاء أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، و لم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الإنية و الاستكبار، و كان الإتيان بلفظ المتكلم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة فإن فيه هضما للنفس بإلغاء تعينها و شخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنية و الاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة و خلطها بسواد الناس فإن فيه إمحاء التعين و إعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.
و قد ظهر من ذلك كله: أن إظهار العبودية بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ؛ لا يشتمل على نقص من حيث المعنى و من حيث الإخلاص إلا ما في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود و القدرة و الإرادة مع أنه مملوك و المملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، أي إنما ننسب العبادة إلى أنفسنا و ندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لإبداء معنى واحد و هو العبادة عن إخلاص، و يمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة و العبادة في السياق الخطابي حيث قيل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ من دون أن يقال: إياك نعبد أعنا و اهدنا الصراط المستقيم
26